”إله الصدفة“ رواية الإنسان المستلب في المجتمع الرأسماليّ
بعد الإنتهاء من قراءة رواية "إله الصدفة" للروائية الدنماركية كريستن تورب، ترجمة: دنى غالي، تذكرت " مارتن" جاري الدنماركيّ الذي لا ألتقيه إلاّ صدفة في السوبرماركت القريب من منزلنا. فما أن نتبادل التحية وأسأله عن أحواله، حتّى يقول إنه (يعمل ستين ساعة في الأسبوع -أسبوع العمل هنا خمسة أيام وفي مرّات كثيرة تحتاجه الشركة للعمل من منزله ليلاً، ولا يحب أكل الجبن إلا في يوم السبت فقط!)، ثم يكرر اللازمة المعهودة: (عمل، عمل، عمل!). جاري الدنماركيّ، الذي يعمل في مجال برمجيات الكومبيوتر، أدمن الوحدة ويشعر بالذعر حين أحدثه عن الأطفال والعائلة، يتنقل مسرعاً بين أقسام السوبرماركت ويكمل تبضعه في وقت قصير جداً، وكأنه يشعر بوقع خطوات تلاحقه أو يسمع أصوات تناديه للعودة سريعاً إلى عمله، وبرامجه، وتقنيات!. تخيلته بوجه "نانا" أو "بِن وبياتريس" اللذين يكرسون جل حياتهم للعمل وكأنهم يهربون من أسئلة حياتهم ووجودهم ومتطلباتهم كبشر لهم مشاعر وأحاسيس ورغبات، أو يخفون أزماتهم وعللهم النفسية والاجتماعية وغياب الأشياء ذات المعنى من حياتهم!
تخيلت جاري الذي يدفعه الإجهاد وضغوط العمل للسفر إلى بلد أفريقي، فيتعاطف مع طفلة "من جلد وعظم" تشبه "مارياما" وكلّ الأطفال الذين يواصلون عيش حياة الجحيم، يسحقهم الجوع والفقر في أفريقيا وبلدان وقارات أخرى، فيقرر أن يتبناها، وأن يوصلها إلى لندن لتعيش، وتدرس، وتحقق أحلامها هناك! لكنّه يخسرها ويفشل في إقناعها باكمال دراستها والإبتعاد عن البيئة والأشخاص الذين تعرفت عليهم، لأنّها باتت تشعر بالإغتراب عن "الانكليز" وقيمهم التي تتعارض مع معتقداتها، وايمانها، وصلاتها، وقناعاتها بمفعول الأرواح والسحر والتعاويذ والأدعية التي يمارسها " المربوط" بطلب من أمها، فتشعر بالدنس والوساخة حتّى لو بقيت عدة ساعات في الحمام، المكان الوحيد الذي تشعر فيه بالامان! ويخسر نفسه وكلّ ما إدخره من أموال في لعبة روليت!
جاري الدنماركي، أصبح نزيل الأقسام المغلقة والمصحات التي تعنى بالحالات النفسية الحرجة، لأنه فقد أي شعور بحياته كإنسان وتحول إلى آلة تعمل ليل نهارلإقناع مدراء عمله بجهده ومقدرته!
في حوار سابق مع كريستن تورب عن هذه الرواية ( الأهرام..23 مارس 2014)، تحدثت عن الإنحلال الذي يصيب الأفراد، كمصير تؤدي إليه الرأسمالية التي لا يعنيها انهيار الحضارات الكبرى!
بغض النظر عن انهيار الحضارات الكبرى الذي تحدث عنه تورب، فإن إله الصدفة، رواية عن المجتمع الرأسمالي بقوانينه وتناقضاته وقدرته على إخضاع الأفراد وتطويعهم وإفراغ قدراتهم وطاقاتهم وتحويلهم إلى آلات تعمل بشكل متواصل، وتجريدهم من مشاعرهم ورغباتهم التي لا يجب أن تكون خارج أسوار الشركات والمؤسسات التي يعملون فيها أو قاعات الاجتماعات الموصدة، بل عليهم إثبات الولاء الدائم للمؤسسة التي يعملون فيها، حتّى لو تطلب الأمر استدعاء " مدرب الحياة" الذي ستكون مهمته إرشاد من يعانون من الإجهاد والأزمات النفسية التي يسببها ضغط العمل، وإبعادهم عن كلّ المؤثرات الخارجية الاخرى التي لا ترتبط بالعمل ولا بالمؤسسة ومشاريعها وستراتيجياتها ويدلهم مرّة أخرى على الطريق الذي يوصلهم إلى دهاليز المؤسسة والخضوع للمراقبة الصارمة والتقييم والتنافس مع زملاء العمل الذين يتحينون الفرصة للإنقضاض واحتلال المكان والمنصب! فقدان العمل يعني الضياع ولابد من العودة إليه مرّة أخرى حتّى لو تطلب ذلك أن تقدم "نانا" جسدها لمدير التوظيف في المؤسسة التي تركتها، من أجل أن يعيدها إلى جنة العمل والأموال!
- " أقولها كما هي لا غير، بِن نحن نعمل ولا نعرف من نحن"
" أتوقع انك لاتعملين ليل نهار فقط ولكن يمتد ذلك إلى اللاوعي والأحلام"
" أعيش مثل راهبة والعمل صلاتي".(ص 36)
"لأني أريد أن أقدم أقصى ما لديّ. أن أعطي " روار"* كل ما عندي.
هل هناك من شيء أهم في حياتك من " روار"؟
لا"...(ص 134)
" ماهي ستراتيجية بقائك على قيد الحياة؟
"التركيز مائة بالمائة على عملي."
"ما الذي يحول دون منحك "روار" تركيزك التام؟؟" (ص 171)
وعلى الرغم من ان "إله الصدفة" 374 صفحة، قد صدرت في أغسطس، آب، 2013 ضمن سلسلة إبداعات عالمية التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت، وترجمتها دنى غالي، إلا أن الرواية، ورغم أهميتها لما تسلطه من ضوء على المجتمع المعاصر، بكلّ تناقضاته وإغتراب الإنسان فيه وتحوله إلى أداة تواصل العمل، بغض النظر عن حجم المعاناة الإنسانية والعزلة والإرهاق والشعور بالوحدة الذي يصيب الأفراد، إلاّ انها لم تأخذ صداها في القراءات النقدية أو العروض الصحفية في العالم العربي، سوى بضع مقالات لم تعط للرواية حقها وكأنها كتبت من أجل الترضية ورفع العتب!
*روار العالمية: المؤسسة التي تعمل فيها "نانا" الشخصية الرئيسية في الرواية. وهي مؤسسة للتعاملات المالية وبيع الأسهم.